فصل: تفسير الآيات (38- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (35):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
قيل: هذه الآية اعترضت في قصة نوح، والإخبار فيها عن قريش. يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: افترى القرآن، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح، أي: بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه، فقال عليه السلام قل: إن افتريته فعليّ إثم إجرامي، والإجرام مصدر أجرم، ويقال: أجر وهو الكثير، وجرم بمعنى. ومنه قول الشاعر:
طريد عشيرة ورهين ذنب ** بما جرمت يدي وجنى لساني

وقرئ أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم، ذكره النحاس، وفسر بآثامي. ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ، وقيل: مما تجرمون من الكفر والتكذيب.

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
قرأ الجمهور وأوحي مبنياً للمفعول، أنه بفتح الهمزة. وقرأ أبو البرهشيم: وأوحي مبنياً للفاعل، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين، وعلى إجراء أوحى مجرى قال: على مذهب الكوفيين، أيأسه الله من إيمانهم، وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى عنهم. ومعنى إلا من قد آمن أي: من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون، وهو حزنه عليهم في استكانة. وابتأس افتعل من البؤس، ويقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وقال الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته ** فلم نبتئس والرزء فيه جليل

وقال آخر:
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس ** منه واقعد كريماً ناعم البال

وقال آخر:
فارس الخيل إذا ما ولولت ** ربة الخدر بصوت مبتئس

وقال آخر:
في مأتم كنعاج ص ** رة يبتئسن بما لقينا

صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام منهم. واصنع عطف على فلا تبتئس، بأعيننا بمرأى منا، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها، ولا يحول بين العمل وبينه أحد. والجمع هنا كالمفرد في قوله: ولتصنع على عيني، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها. وقرأ طلحة بن مصرف: باعينا مدغمة. ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. قيل: ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة. وقول من قال: معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف، لأن قوله: واصنع الفلك، مغن عن ذلك. وفي الحديث: «كان زان سفينة نوح جبريل» والزان القيم بعمل السفينة. والذين ظلموا قوم نوح، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله: {يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)}
ويصنع الفلك حكاية حال ماضية، والفلك السفينة. ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: بلى، ذلك بعيني. فأخذ القدوم، وجعلت يده لا تخطئ، فكانوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجاراً؟ وقيل: كانت الملائكة تعلمه، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه، وأوحى الله إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه، والخشب من الساج قاله: قتادة، وعكرمة، والكلبي. قيل: وغرسه عشرين سنة. وقيل: ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس. وقال عمرو بن الحرث: لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان. وقال ابن عباس: من خشب الشمشار، وهو البقص قطعة من جبل لبنان. واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول، وفي مقدار مدة عملها، وفي المكان الذي عملت فيه، ومقدار طولها وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء. وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت، قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: ابني بيتاً يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله: مقاتل. وقيل: لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر، فكانوا يتضاحكون ويقولون: يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً. وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه، وقال: مستأنف على تقدير سؤال سائل. وجوزوا أن يكون العامل قال: وسخروا صفة لملا، أو بدل من مرّ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا نوعاً منه. قال ابن عطية: وسخروا منه استجهلوه، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط، ولا كانت، فوجه الاستجهال واضح، وبذلك تظاهرت التفاسير، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أنّ صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى، فأنا نسخر منكم في المستقبل كما تسخرون منا الآن أي: مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا، وأحرقتم في الآخرة، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال: قريباً من معناه الزجاج. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وقال ابن جريج: إن يسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة. والسخرية استجهال مع استهزاء. وفي قوله: فسوف تعلمون، تهديد بالغ، والعذاب المخزي الغرق، والعذاب المقيم عذاب الآخرة، لأنه دائم عليهم سرمد. ومن يأتيه مفعول بتعلمون، وما موصولة، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد.
وقال ابن عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحد انتهى. ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً، لأنّ أصله خبر مبتدأ، ولا اختصاراً هنا، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله: من يأتيه. وقيل: مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء، ويأتيه الخبر، والجملة في موضع نصب، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين. وحكى الزهراوي أنه يقرأ ويحل بضم الحاء، ويحل بكسرها بمعنى ويجب. قال الزمخشري: حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه، ومعنى يخزيه: يفضحه، أو يهلكه، أو يذله، وهو الغرق. أقوال متقاربة حتى إذا جاء أمرنا تقدم الكلام على دخول حتى على إذا في أوائل سورة الأنعام، وهي هنا غاية لقوله: ويصنع الفلك. ويصنع كما قلنا حكاية حال أي: وكان يصنع الفلك إلى أن جاء وقت الوعد الموعود. والجملة من قوله: وكلما مرّ عليه حال، كأنه قيل: ويصنعها، والحال أنه كلما مر، وأمرنا واحد الأمور، أو مصدر أي: أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال، وللملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة. وفار: معناه انبعث بقوة، والتنور وجه الأرض، والعرب تسميه تنوراً قاله: ابن عباس، وعكرمة، والزهري، وابن عيينة، أو التنور الذي يخبز فيه، وكان من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح قاله: الحسن، ومجاهد، وروي أيضاً عن ابن عباس. وقيل: كان لآدم، وقيل: كان تنور، نوح، أو أعلى الأرض والمواضع المرتفعة قاله: قتادة، أو العين التي بالجزيرة عين الوردة رواه عكرمة، أو من أقصى دار نوح قاله: مقاتل، أو موضع اجتماع الماء في السفينة، روي عن الحسن، أو طلوع الشمس وروي عن علي، أو نور الصبح من قولهم: نور الفجر تنويراً قاله: علي ومجاهد، أو هو مجاز والمراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب: «حمي الوطيس» والوطيس أيضاً مستوقد النار، فلا فرق بين حمى وفار، إذ يستعملان في النار. قال الله تعالى: {سمعوا لها شهيقاً وهي تفور} ولا فرق بين الوطيس والتنور. والظاهر من هذه الأقوال حمله على التنور الذي هو مستوقد النار، ويحتمل أن تكون أل فيه للعهد لتنور مخصوص، ويحتمل أن تكون للجنس. ففار النار من التنانير، وكان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النيران. ولا تنافي بين هذا وبين قوله: {وفجرنا من الأرض ينبوعاً} إذ يمكن أن يراد بالأرض أماكن التنانير، والتفجير غير الفوران، فحصل الفوران للتنور، والتفجير للأرض. والضمير في فيها عائد على الفلك، وهو مذكر أنث على معنى السفينة، وكذلك قوله: وقال اركبوا فيها.
وقرأ حفص: من كل زوجين بتنوين، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول، واثنين نعت توكيد، وباقي السبعة بالإضافة، واثنين مفعول احمل، وزوجين بمعنى العموم أي: من كل ما له ازدواج، هذا معنى من كل زوجين قاله أبو علي وغيره.
قال ابن عطية: ولو كان المعنى احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج، هذا وهما زوجان، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: {ثمانية أزواج} ثم فسرها وفي قوله {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى} وقال الأخفش: وقد يقال في كلام العرب للاثنين زووج، هكذا تأخذه العدديون. والزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله تعالى: {وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج} وقال تعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها} انتهى.
ولما جعل المطر ينزل كأفواه القرب جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هرباً من الماء، حتى اجتمعن عند السفينة فأمره الله أن يحمل من الزوجين اثنين، يعني: ذكراً وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان. فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى، وكانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن. وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل، وعلى اثنين إن أضيف، واستثنى من أهله من سبق عليه القول بالهلاك وأنه من أهل النار. قال الزمخشري: سبق عليه القول أنه يختار الكفر لا لتقديره عليه وإرادته تعالى غير ذلك انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، والذي سبق عليه القول امرأته واعلة بالعين المهملة، وابنه كنعان. ومن آمن عطف على وأهلك، قيل: كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة، وقيل: كانوا ثلاثة وثمانين. وقال ابن عباس: آمن معه ثمانون رجلاً، وعنه ثمانون إنساناً، ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل. وقيل: كانوا ثمانية وسبعين، نصفهم رجال، ونصفهم نساء. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح، وبنوه سام وحام ويافث، وستة ناس من كان آمن به وأزواجهم جميعاً. وعن ابن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال، وخمس نسوة. وقيل: كانوا تسعة ونوح، وثمانية أبناء له وزوجته. وقيل: كانوا ثمانية ونوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم، وهو قول: قتادة، والحكم، وابن عيينة، وابن جريج، ومحمد بن كعب. وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن، وثلاث بنين. وهذه أقوال متعارضة، والذي أخبر الله تعالى به أنه ما آمن معه إلا قليل، ولا يمكن التنصيص على عدد هذا النفر القليل الذي أبهم الله عددهم إلا بنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (41- 43):

{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)}
رسا الشيء يرسو، ثبت واستقر. قال:
فصبرت نفساً عند ذلك حرة ** ترسو إذا نفس الجبان تطلع

{وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}: الضمير في: وقال، عائد على نوح أي: وقال نوح حين أمر بالحمل في السفينة لمن آمن معه ومن أمر بحمله: اركبوا فيها. وقيل: الضمير عائد على الله، والتقدير: وقال الله لنوح ومن معه، ويبعد ذلك قوله: إن ربي لغفور رحيم. قيل: وغلب من يعقل في قوله: اركبوا، وإنْ كانوا قليلاً بالنسبة لما لا يعقل ممن حمل فيها، والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة، لأنه لا يليق بما لا يعقل. وعدى اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها، أو معنى ادخلوا فيها. وقيل: التقدير اركبوا الماء فيها. وقيل: في زائدة للتوكيد أي: اركبوها. والباء في بسم الله في موضع الحال، أو متبركين بسم الله. ومجراها ومرساها منصوبان إما على أنهما ظرفا زمان أو مكان، لأنهما يجيئان لذلك. أو ظرفا زمان على جهة الحذف، كما حذف من جئتك مقدّم إلحاج، أي: وقت قدوم الحاج، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما المضاف، وانتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل. ويجوز أن يكون باسم الله حالاً من ضمير فيها، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان على الفاعلية، أي: اركبوا فيها ملتبساً باسم الله إجراؤها وإرساؤها أي: ببركة اسم الله. أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء، وباسم الله الخبر، والجملة حال من الضمير في فيها. وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة، والحال مقدرة. ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو الابتداء أن يكون حالاً من ضمير اركبوا، لأنه لا عائد عليه فيما وقع حالاً. ويجوز أن يكون باسم الله مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدإ وخبر، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث الإعراب أمرهم أولاً بالركوب، ثم أخبر أنّ مجراها ومرساها بذكر الله أو بأمره وقدرته، فالجملتان كلامان محكيان. يقال: كما أن الجملة الثانية محكية أيضاً بقال. وقال الضحاك: إذا أراد جري السفينة قال بسم الله مجراها فتجري، وإذا أراد وقوفها قال بسم الله مرساها فتقف.
وقرأ مجاهد، والحسن، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، والجمهور من السبعة الحرميان، والعربيان، وأبو بكر: مجراها بضم الميم. وقرأ الأخوان، وحفص: بفتحها، وكلهم ضم ميم مرساها.
وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي، وزيد بن عليّ، والأعمش، مجراها ومرساها بفتح الميمين، ظرفي زمان أو مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة. وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جند، والكلبي، والجحدري، مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم الله، فهما في موضع خبر، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين. وقال ابن عطية: وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره في قولهم بسم الله انتهى. ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أنْ يكونا معرفتين. وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة، فتعرّف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرّف. إن ربي لغفور ستور عليكم ذنوبكم بتوبتكم وإيمانكم، رحيم لكم إذا نجاكم من الغرق. وروي في الحديث: «أن نوحاً ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع» وعن عكرمة: لعشر خلون من رجب. وهي تجري بهم إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة، وبهم حال أي: ملتبسة بهم، والمعنى: تجري وهم فيها في موج كالجبال، أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها. روي أن السماء أمطرت جميعها حتى لم يكن في الهواء جانب إلا أمطر، وتفجرت الأرض كلها بالنبع، وهذا معنى التقاء الماء. وروي أن الماء علا على الجبال وأعالي الأرض أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر. وكون السفينة تجري في موجٍ دليل على أنه كان في الماء موج، وأنه لم يطبق الماء ما بين السماء والأرض، وأنّ السفينة لم تكن تجري في جوف الماء والماء أعلاها وأسفلها، فكانت تسبح في الماء كما تسبح السمكة، كما أشار إليه الزجاج والزمخشري وغيرهما. وقد استبعد ابن عطية هذا قال: وأين كان الموج كالجبال على هذا؟ ثم كيف استقامت حياة من في السفينة؟ وأجاب الزمخشري: بأن الجريان في الموج كان قبل التطبيق، وقيل أنْ يعم الماء الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. ونادى نوح ابنه، الواو لا ترتب. وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله: وهي تجري بهم في موج، وفي إضافته إليه هنا وفي قوله: إن ابني من أهلي، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه، وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، والضحاك، وابن جبير، وميمون بن مهران، والجمهور، واسمه كنعان. وقيل: يام، وقيل: كان ابن قريب له ودعاه بالبنوّة حناناً منه وتلطفاً. وقرأ الجمهور: بكسر تنوين نوح، وقرأ وكيع بن الجراح: بضمه، أتبع حركته حركة الإعراب في الحاء. قال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تعرف. وقرأ الجمهور: بوصل هاء الكناية بواو، وقرأ ابن عباس: أنه بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي: وهذا على لغة الازد الشراة، يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر:
ونضواي مشتاقان له أرقان

وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشدون:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ** إلا لأن عيونه سيل واديها

وقرأ السدّيّ ابناه بألف وهاء السكت. قال أبو الفتح: ذلك على النداء. وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة والرثاء. وقرأ عليّ، وعروة، وعليّ بن الحسين، وابنه أبو جعفر، وابنه جعفر: ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي: ابنها مضافاً لضمير امرأته، فاكتفى بالفتحة عن الألف. قال ابن عطية: وهي لغة، ومنه قول الشاعر:
إما تقود بها شاة فتأكلها ** أو أن تبيعه في بعض الأراكيب

وأنشد ابن الأعرابي على هذا:
فلست بمدرك ما فات مني ** بلهف ولا بليت ولا لواني

انتهى. يريد تبيعها وتلهفاً، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف، قال ابن عطية: وليس كما قال انتهى. وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف عند أصحابنا ضرورة، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف، والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن الياء، وأجاز ذلك الأخفش. وقرأ أيضاً عليّ وعروة ابنها بفتح الهاء وألف أي: ابن امرأته. وكونه ليس ابنه لصلبه، وإنما كان ابن امرأته قول: علي، والحسن، وابن سيرين، وعبيد بن عمير. وكان الحسن يحلف أنه ليس ابنه لصلبه، قال قتادة: فقلت له: إن الله حكى عنه أن ابني من أهلي، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل مني، فعلى هذا يكون ربيباً. وكان عكرمة، والضحاك، يحلفان على أنه ابنه، ولا يتوهم أنه كان لغير رشدة، لأن ذلك غضاضة عصمت منه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وروي ذلك عن الحسن وابن جريج، ولعله لا يصح عنها. وقال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه ابنه، وأما قراءة من قرأ ابنه أو ابنها فشاذة، ويمكن أن نسب إلى أمه وأضيف إليها، ولم يضف إلى أبيه لأنه كان كافراً مثلها، يلحظ فيه هذا المعنى ولم يضف إليه استبعاداً له، ورعياً أن لا يضاف إليه كافر، وإنما ناداه ظناً منه أنه مؤمن، ولولا ذلك ما أحب نجاته. أو ظناً منه أنه يؤمن إنْ كان كافراً لما شاهد من الأهوال العظيمة، وأنه يقبل الإيمان. ويكون قوله: اركب معنا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان، وتأكد بقوله: ولا تكن مع الكافرين، أي اركب مع المؤمنين، إذ لا يركب معهم إلا مؤمن لقوله: ومن آمن.
وفي معزل أي: في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين.
وقيل: في معزل عن دين أبيه، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة، والمعنى: اركب معنا في السفينة فتنجو ولا تكن مع الكافرين فتهلك. وقرأ عاصم يا بني بفتح الياء، ووجه على أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف، وأصله يا بنيا كقولك: يا غلاماً، كما اجتزأ باقي السبعة بالكسرة عن الياء في قراءتهم يا بني بكسر الياء، أو أن الألف انحذفت لالتقائها مع راء اركب. وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجير على العادة، فلذلك قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي: من وصول الماء إليّ فلا أغرق، وهذا يدل على عادته في الكفر، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به.
قيل: والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه، والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وأنه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت، وأنّ من رحم يقع فيه من على المعصوم. والضمير الفاعل يعود على الله تعالى، وضمير الموصول محذوف، ويكون الاستثناء منقطعاً أي: لكنْ من رحمة الله معصوم، وجوزوا أن يكون من الله تعالى أي لا عاصم إلا الراحم، وأن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة، كما قالوا لابن أي: ذو لبن، وذو عصمة، مطلق على عاصم وعلى معصوم، والمراد به هنا المعصوم. أو فاعل بمعنى مفعول، فيكون عاصم بمعنى معصوم، كماء دافق بمعنى مدفوق. وقال الشاعر:
بطيء الكلام رخيم الكلام ** أمسى فؤادي به فاتنا

أي مفتوناً. ومن للمعصوم أي: لا ذا عصمة، أو لا معصوم إلا المرحوم. وعلى هذين التجويزين يكون استثناء متصلاً، وجعله الزمخشري متصلاً بطريق أخرى: وهو حذف مضاف وقدره: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة انتهى. والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف، لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، لأنه لما قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح: لا عاصم، أي لا عاصم موجود. ويكون اليوم منصوباً على إضمار فعل يدل عليه عاصم، أي: لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله، ومن أمر متعلق بذلك الفعل المحذوف. ولا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بقوله: لا عاصم، ولا أن يكون من أمر الله متعلقاً به، لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولاً، وإذا كان مطولاً لزم تنوينه وإعرابه، ولا يبنى وهو مبنى، فبطل ذلك. وأجاز الحوفي وابن عطية أن يكون اليوم خبراً لقوله: لا عاصم. قال الحوفي: ويجوز أن يكون اليوم خبراً ويتعلق بمعنى الاستقرار، وتكون من متعلقة بما تعلق به اليوم. وقال ابن عطية: واليوم ظرف وهو متعلق بقوله: من أمر الله، أو بالخبر الذي تقديره: كائن اليوم انتهى.
وردّ ذلك أبو البقاء فقال: فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم، لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، بل الخبر من أمر الله، واليوم معمول من أمر الله. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون اليوم نعتاً لعاصم ومن الخبر انتهى. ويردّ بما ردّ به أبو البقاء من أن ظرف الزمان لا يكون نعتاً للجثث، كما لا يكون خبراً. وقرئ إلا من رحم بضم الراء مبنياً للمفعول، وهذا يدل على أنّ المراد بمن في قراءة الجمهور الذين فتحوا الراء هو المرحوم لا الراحم، وحال بينهما أي بين نوح وابنه. قيل: كانا يتراجعان الكلام، فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة، وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقال الفراء: بينهما أي بين ابن نوح والجبل الذي ظن أنه يعصمه.